تقسيم المصحف إلى أجزاء وأحزاب
السؤال :
على أي أساس تم تقسيم المصحف لأجزاء وأحزاب ؟ ولماذا يكون ربع الحزب صغيرا ، وآخر كبيرا ؟
الجواب :
الحمد لله
أولا:
تقسيم المصاحف إلى أجزاء وأحزاب وأرباع تقسيم اصطلاحي اجتهادي ، ولذلك يختلف الناس
في تقسيماتهم ، كل بحسب ما يناسبه ويختاره ، وبحسب ما يراه الأنفع والأقرب ، إلا أن
التحزيب المشهور عن الصحابة رضوان الله عليهم هو ما يرويه أوس بن حذيفة قال : (
سَأَلْتُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ
يُحَزِّبُونَ الْقُرْآنَ ؟ قَالُوا : ثَلَاثٌ ، وَخَمْسٌ ، وَسَبْعٌ ، وَتِسْعٌ ،
وَإِحْدَى عَشْرَةَ ، وَثَلَاثَ عَشْرَةَ ، وَحِزْبُ الْمُفَصَّلِ وَحْدَهُ ) رواه
أبو داود (1393) .
والمعنى : ثلاث سور : وهي بعد الفاتحة : البقرة ، وآل عمران ، والنساء .
ثم خمس سور ، وهي : المائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال ، والتوبة .
ثم سبع سور ، وهي : يونس ، وهود ، ويوسف ، والرعد ، وإبراهيم ، والحجر ، والنحل .
ثم تسع سور ، وهي : سورة الإسراء ، والكهف ، ومريم ، وطه ، والأنبياء ، والحج ،
والمؤمنون ، والنور ، والفرقان .
ثم إحدى عشرة سورة ، وهي : الشعراء ، والنمل ، والقصص ، والعنكبوت ، والروم ،
ولقمان ، والسجدة ، والأحزاب ، وسبأ ، وفاطر ، ويس .
ثم ثلاث عشرة سورة ، وهي : الصافات ، وص ، والزمر ، وحَواميِم السَّبع ، ومحمد ،
والفتح ، والحجرات .
ثم الباقي ، وهو : من سورة ق إلى الناس .
قال الزرقاني في "مناهل العرفان في علوم القرآن" (1/283) ، تحت عنوان " تجزئة
القرآن " :
" كانت المصاحف العثمانية مجردة من التجزئة التي نذكرها ، كما كانت مجردة من النقط
والشكل . ولما امتد الزمان بالناس جعلوا يتفننون في المصاحف وتجزئتها عدة تجزئات
مختلفة الاعتبارات :
فمنهم من قسَّم القرآن ثلاثين قسما ، وأطلقوا على كل قسم منها اسم الجزء ، بحيث لا
يخطر بالبال عند الإطلاق غيره ، حتى إذا قال قائل : قرأت جزءا من القرآن ، تبادر
إلى الذهن أنه قرأ جزءا من الثلاثين جزءا التي قسموا المصحف إليها .
ومن الناس من قسموا الجزء إلى حزبين ، ومن قسموا الحزب إلى أربعة أجزاء ، سموا كل
واحد منها ربعا .
ومن الناس من وضعوا كلمة " خمس " عند نهاية كل خمس آيات من السورة ، وكلمة " عشر "
عند نهاية كل عشر آيات منها ، فإذا انقضت خمس أخرى بعد العشر أعادوا كلمة خمس ،
فإذا صارت هذه الخمس عشرا أعادوا كلمة عشر ، وهكذا دواليك إلى آخر السورة .
وبعضهم يكتب في موضع الأخماس رأس الخاء بدلا من كلمة خمس ، ويكتب في موضع الأعشار
رأس العين بدلا من كلمة عشر .
وبعض الناس يرمز إلى رؤوس الآي برقم عددها من السورة ، أو من غير رقم .
وبعضهم يكتب فواتح للسور كعنوان ينوه فيه باسم السورة وما فيها من الآيات المكية
والمدنية ، إلى غير ذلك .
وللعلماء في ذلك كلام طويل بين الجواز بكراهة ، والجواز بلا كراهة ، ولكن الخطب سهل
على كل حال ما دام الغرض هو التيسير والتسهيل ، وما دام الأمر بعيدا عن اللبس
والتزيد والدخيل ، وعلى الله قصد السبيل " انتهى .
ثانيا :
أما التحزيب الموجود اليوم في المصاحف فليس هناك جزم بأول من وضعه واختاره ، ولكن
الذي ينقله بعض أهل العلم أن واضعه هو الحجاج بن يوسف الثقفي المتوفى سنة (110هـ) ،
وأن مناط التقسيم فيه كان على عدد الحروف .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – كما في "مجموع الفتاوى" (13/409) - :
" قد علم أن أول ما جُزِّئَ القرآن بالحروف تجزئةَ ثمانية وعشرين ، وثلاثين ، وستين
، هذه التي تكون رؤوس الأجزاء والأحزاب في أثناء السورة ، وأثناء القصة ونحو ذلك ،
كان في زمن الحجاج وما بعده ، وروي أن الحجاج أمر بذلك ، ومن العراق فشا ذلك ، ولم
يكن أهل المدينة يعرفون ذلك .
وإذا كانت التجزئة بالحروف محدثة من عهد الحجاج بالعراق ، فمعلوم أن الصحابة قبل
ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده كان لهم تحزيب آخر ؛ فإنهم كانوا
يقدرون تارة بالآيات فيقولون : خمسون آية ، ستون آية ، وتارة بالسور ، لكن تسبيعه
بالآيات (يعني تقسيم القرآن إلى سبعة أقسام بالآيات) لم يروه أحد ، ولا ذكره أحد ،
فتعين التحزيب بالسور " انتهى.
وقال ابن تيمية رحمه الله أيضاً - كما في "مجموع الفتاوى" (13/410-416) :
" وهذا الذي كان عليه الصحابة هو الأحسن ؛ لوجوه :
أحدها : أن هذه التحزيبات المحدثة تتضمن دائمًا الوقوف على بعض الكلام المتصل بما
بعده ، حتى يتضمن الوقف على المعطوف دون المعطوف عليه ، فيحصل القارئ في اليوم
الثاني مبتدئًا بمعطوف ، كقوله تعالى : ( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ
مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) النساء/24 ، وقوله : ( وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ
لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ) الأحزاب/31 ، وأمثال ذلك .
الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت عادته الغالبة وعادة أصحابه أن يقرأ في
الصلاة بسورة كـ " ق " ونحوها ، وأما القراءة بأواخر السور وأوساطها ، فلم يكن
غالبًا عليهم ؛ ولهذا يتورع في كراهة ذلك ، وفيه النزاع المشهور في مذهب أحمد وغيره
، ومن أعدل الأقوال قول من قال : يكره اعتياد ذلك دون فعله أحيانًا ؛ لئلا يخرج عما
مضت به السنة ، وعادة السلف من الصحابة والتابعين .
وإذا كان كذلك فمعلوم أن هذا التحزيب والتجزئة فيه مخالفة السنة أعظم مما في قراءة
آخر السورة ووسطها في الصلاة .
وبكل حال فلا ريب أن التجزئة والتحزيب الموافق لما كان هو الغالب على تلاوتهم أحسن
.
والمقصود أن التحزيب بالسورة التامة أولى من التحزيب بالتجزئة .
الثالث : أن التجزئة المحدثة لا سبيل فيها إلى التسوية بين حروف الأجزاء ؛ وذلك لأن
الحروف في النطق تخالف الحروف في الخط في الزيادة والنقصان ، يزيد كل منهما على
الآخر من وجه دون وجه ، وتختلف الحروف من وجه .
وإذا كان تحزيبه بالحروف إنما هو تقريب لا تحديد ، كان ذلك من جنس تجزئته بالسور هو
أيضًا تقريب ؛ فإن بعض الأسباع قد يكون أكثر من بعض في الحروف ، وفي ذلك من المصلحة
العظيمة بقراءة الكلام المتصل بعضه ببعض ، والافتتاح بما فتح اللّه به السورة ،
والاختتام بما ختم به ، وتكميل المقصود من كل سورة ما ليس في ذلك التحزيب " انتهى
باختصار .
وسئل علماء اللجنة الدائمة للإفتاء :
هل يجوز تحزيب القرآن - يعني عند تلاوته - ؛ لما في ذلك من تغيير لأقواله تعالى ،
ومنه الزيادة والنقصان ، وهذا ما شهدناه في بعض مناطق المغرب العربي ، هل يجوز ذلك
؟
فأجابوا :
"لا نعلم شيئا يدل على التحزيب المثبت على هوامش المصاحف التي بيد الناس اليوم ،
والوارد عن الصحابة رضي الله عنهم في ذلك ما رواه أوس بن حذيفة قال : ( سألت أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف يحزبون القرآن ؟ فقالوا : ثلاث ، وخمس ، وسبع ،
وتسع ، وإحدى عشرة ، وثلات عشرة ، وحزب المفصل وحده ) " انتهى .
والحاصل أن تحزيب المصاحف المثبت اليوم يعتمد عدد الأحرف ، وهو خلاف التحزيب الأفضل
الذي سلكه الصحابة رضوان الله عليهم تبعا للسور ، والأمر في هذا سهل .
والله أعلم .