حول النسخ في القرآن ، وترتيب سوره وآياته .
السؤال:
هل هناك آيات نسخت ، أي : مسحت من القرآن ، ووضع محلها آية أخرى ؟ وهل هناك
كتاب يتكلم عن الآيات والسور ، يعني : إذا الآيات كانت رتَّبها الصحابة أو
الرسول أو الله ، واسم السور ، وهكذا ؟ .
الجواب:
الحمد لله
أولاً :
النسخ في اللغة : الرفع والإزالة ، وفي الاصطلاح : رفع حكم دليل شرعي ، أو لفظه ،
بدليل من الكتاب أو السنة .
والنسخ ثابت في الكتاب والسنَّة وفي إجماع أهل السنَّة ، وفيه حِكَم عظيمة ،
وغالباً ما يكون الناسخ تخفيفاً على المسلمين ، أو تكثيراً للأجور .
قال الله تعالى : ( مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ
مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
. أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا لَكُمْ
مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)
البقرة / 106 - 107 .
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله - :
النسخ : هو النقل ، فحقيقة النسخ : نقل المكلفين من حكم مشروع ، إلى حكم آخر ، أو
إلى إسقاطه ، وكان اليهود ينكرون النسخ ، ويزعمون أنه لا يجوز ، وهو مذكور عندهم في
التوراة ، فإنكارهم له كفر ، وهوى محض .
فأخبر الله تعالى عن حكمته في النسخ ، وأنه ما ينسخ من آية ( أَوْ نُنْسِهَا ) أي :
نُنسها العباد ، فنزيلها من قلوبهم : ( نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا ) وأنفع لكم ، (
أَوْ مِثْلِهَا ) .
فدل على أن النسخ لا يكون لأقل مصلحة لكم من الأول ؛ لأن فضله تعالى يزداد ، خصوصاً
على هذه الأمة ، التي سهل عليها دينها غاية التسهيل .
وأخبر أن من قدح في النسخ : فقد قدح في ملكه ، وقدرته ، فقال : ( أَلَمْ تَعْلَمْ
أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ
مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) .
فإذا كان مالكاً لكم ، متصرفاً فيكم ، تصرف المالك البر الرحيم في أقداره وأوامره
ونواهيه : فكما أنه لا حجر عليه في تقدير ما يقدره على عباده من أنواع التقادير :
كذلك لا يعترض عليه فيما يشرعه لعباده من الأحكام ، فالعبد مدبَّر ، مسخَّر تحت
أوامر ربه الدينية والقدرية ، فما له والاعتراض ؟ .
وهو أيضاً ولي عباده ، ونصيرهم ، فيتولاهم في تحصيل منافعهم ، وينصرهم في دفع
مضارهم ، فمن ولايته لهم : أن يشرع لهم من الأحكام ما تقتضيه حكمته ، ورحمته بهم .
ومَن تأمل ما وقع في القرآن والسنَّة من النسخ : عرف بذلك حكمة الله ، ورحمته عباده
، وإيصالهم إلى مصالحهم ، من حيث لا يشعرون بلطفه .
" تفسير السعدي " ( ص 61 ) .
ثانياً:
بمعرفة أنواع النسخ يتبين للأخ السائل جواب سؤاله وزيادة ، والنسخ أنواع ، وهي :
1. نسخ التلاوة والحكم ، كنسخ العشر الرضعات التي كانت تحرم الرضيع على المرضعة ،
فنسخ لفظها ، وحكمها .
2. نسخ التلاوة دون الحكم ، كنسخ آية الخمس رضعات التي تحرِّم الرضيع على المرضع ،
وكآية رجم الزاني والزانية .
3. ونسخ الحكم دون التلاوة ، كنسخ آية ( وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ) ،
وكنسخ تحريم الفرار من الزحف إذا كان العدو عشرة أضعاف المسلمين فما دون ، فنسخ ضعف
عدد المسلمين .
قال ابن عطية – رحمه الله - :
والنسخ التام : أن تنسخ التلاوة والحكم ، وذلك كثير ، وقد تنسخ التلاوة دون الحكم ،
وقد ينسخ الحكم دون التلاوة ، والتلاوة والحكم حكمان ، فجائز نسخ أحدهما دون الآخر
.
" المحرر الوجيز " ( 1/131 ) .
وقال الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني – رحمه الله - :
النسخ الواقع في القرآن يتنوع إلى أنوع ثلاثة نسخ التلاوة والحكم معاً ، ونسخ الحكم
دون التلاوة ، ونسخ التلاوة دون الحكم .
1. نسخ الحكم والتلاوة جميعاً ، فقد أجمع عليه القائلون بالنسخ من المسلمين ، ويدل
على وقوعه سمعاً : ما ورد عن عائشة رضي الله عنها أنها قال : " كان فيما أنزل من
القرآن عشر رضعات معلومات يحرِّمن ، ثم نسخن بخمس معلومات ، وتوفي رسول الله وهنَّ
فيما يقرأ من القرآن " وهو حديث صحيح [ رواه مسلم ( 1452 ) ] ، وإذا كان موقوفاً
على عائشة رضي الله عنها : فإن له حكم المرفوع ؛ لأن مثله لا يقال بالرأي ، بل لا
بد فيه من توقيف ، وأنت خبير بأن جملة " عشر رضعات معلومات يحرِّمن " ليس لها وجود
في المصحف حتى تتلى ، وليس العمل بما تفيده من الحكم باقياً ، وإذن يثبت وقوع نسخ
التلاوة والحكم جميعاً ، وإذا ثبت وقوعه ثبت جوازه ؛ لأن الوقوع أول دليل على
الجواز ، وبطل مذهب المانعين لجوازه شرعاً ، كأبي مسلم [ الأصفهاني ، أصولي معتزلي
] وأضرابه .
2. نسخ الحكم دون التلاوة ، فيدل على وقوعه آيات كثيرة : منها : أن آية تقديم
الصدقة أمام مناجاة الرسول وهي قوله تعالى ( يأيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول
فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ) منسوخة بقوله سبحانه ( ءأشفقتم أن تقدموا بين يدي
نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة وأطيعوا
الله ورسوله ) على معنى أن حكم الآية الأولى منسوخ بحكم الآية الثانية ، مع أن
تلاوة كلتيهما باقية .
ومنها : أن قول سبحانه ( وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ) منسوخ بقوله سبحانه
( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) على معنى أن حكم تلك منسوخ بحكم هذه ، مع بقاء
التلاوة في كلتيهما كما ترى .
3. نسخ التلاوة دون الحكم ، فيدل على وقوعه ما صحت روايته عن عمر بن الخطاب ، وأبي
بن كعب أنهما قالا : ( كان فيما أنزل من القرآن " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها
ألبتة " ) ، وأنت تعلم أن هذه الآية لم يعد لها وجود بين دفتي المصحف ، ولا على
ألسنة القراء ، مع أن حكمها باقٍ على إحكامه لم ينسخ .
ويدل على وقوعه أيضاً : ما صح عن أبي بن كعب أنه قال : " كانت " سورة الأحزاب "
توازي " سورة البقرة " ، أو أكثر " [ رواه أبو داود الطيالسي في مسنده ( رقم 540 )
، وعبد الرزاق في " المصنف " ( رقم 5990 ) ، والنسائي في " السنن الكبرى " ( رقم
7150 ) ، وإسناده صحيح ] ، مع أن هذا القدر الكبير الذي نسخت تلاوته لا يخلو في
الغالب من أحكام اعتقادية لا تقبل النسخ .
ويدل على وقوعه أيضاً : الآية الناسخة في الرضاع ، وقد سبق ذكرها في النوع الأول .
ويدل على وقوعه أيضاً : ما صح عن أبي موسى الأشعري أنهم كانوا يقرؤون سورة على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم في طول " سورة براءة " ، وأنها نسيت إلا آية منها ،
وهي : " لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً ، ولا يملأ جوف ابن
آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب" [ رواه أحمد ( 19280 ) ، وإسناده صحيح ،
وصححه محققو المسند ]
" مناهل العرفان " ( 2 / 154 ، 155 ) .
ثالثاً:
أما بخصوص ترتيب الآيات : فالإجماع قائم على أنه ترتيبها في السورة الواحدة توقيفي
، ولا دخل لاجتهاد الصحابة فيه .
وأما ترتيب السور : فقد وقع خلاف بين العلماء فيه ، والجمهور على أنه كان باجتهاد
الصحابة رضي الله عنهم ، مع التسليم بوجود ترتيب لبعض تلك السور على عهد النبي صلى
الله عليه وسلم .
وانظر في بيان المسألتين : جواب السؤال رقم : (
3214 ) .
وأما تسمية السور : فبعضها قد سمَّاه النبي صلى الله عليه وسلم ، وبعضها كان
باجتهاد الصحابة رضي الله عنهم .
سئل علماء اللجنة الدائمة :
مَن هو الذي سمَّى سور القرآن الكريم ، هل هو الرسول صلى الله عليه وسلم أم ماذا ؟
.
فأجابوا :
لا نعلم نصّاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على تسمية السور جميعها ، ولكن
ورد في بعض الأحاديث الصحيحة تسمية بعضها من النبي صلى الله عليه وسلم ، كالبقرة ،
وآل عمران ، أما بقية السور : فالأظهر أن تسميتها وقعت من الصحابة رضي الله عنهم .
والله أعلم